على الرغم من قلة شعراء فلسطين، مقارنة بشعراء عصر النهضة في مصر وعصر شعراء المهجر في بلاد الشام، إلا أنهم لم يكونوا شعراء حب وجمال بقدر ما كانوا قادة وطنيين، يقودون الجماهير بالكلمة والرصاصة.. وفي المقال السابق، عن إبراهيم طوقان، تطرقنا إلى تأثير إلقائه قصيدته الشهيرة «الثلاثاء الحمراء» على الجماهير التي خرجت بمظاهرة كبيرة بعد سماعها القصيدة..
وبسبب إدراكه لتأثير الشعراء والخطباء في الثورة، اضطهدهم الاحتلال البريطاني وزجّ بالكثير منهم في السجون والمعتقلات. وعندما اشتعلت الثورة الكبرى في فلسطين عام 1936 أصدرت الحكومة البريطانية تشريعاً ظالماً يجعل التحريض على الثورة جريمة عقابها السجن، مما اضطر عدداً من الكتّاب والشعراء للهجرة من فلسطين طلباً لحرية الكلمة، وهرباً من ظلم الاحتلال الذي جعلهم من أهدافه المفضلة.
الشعراء الشهداء
شهدت فلسطين في فترة الجهاد والثورة قبيل النكبة عدداً من الشعراء المميزين كإبراهيم طوقان وأبو سلمى وغيرهم.. كما شهد قافلة عظيمة من الشهداء إلا أنها لم تشهد شخصاً جمع الاثنين معاً غير الشاعر عبد الرحيم محمود. كما أن التاريخ العربي - فيما أعلم - لم يشهد شاعراً شيّع نفسه، فقال بعد إصابته قبيل استشهاده في معركة الشجرة عام 1948 حين وجده رفاقه مصاباً:
احملوني احملوني
واحذروا أن تتركوني
وخذوني لا تخافوا
وإذا مت ادفنوني
حياته
ولد الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود في قرية عنبتا، عام 1913 وكان والده الشيخ عبد الحليم محمود يقرض للشعر ويتذوقه، فأحاطه بالرعاية عند ظهور بوادر نبوغه الشعري، وتلقى تعليمه الابتدائي في قريته والتكميلي في طولكرم. أما المرحلة الثانوية، فقد انتقل ليتمّها في نابلس، في مدرسة النجاح الوطنية (التي أصبحت فيما بعد جامعة النجاح) حيث تتلمذ على يد الشاعر إبراهيم طوقان، وأنهى دراسته الثانوية عام 1933، ولعل الشاعر طوقان كان يقصده حين كتب في مذكراته: أن بعض تلاميذه النجب بدأوا ينظمون الشعر على يديه.
ولما تخرج من المدرسة اختارته إدارتها ليدرّس فيها الأدب العربي، حيث ظل يدرّس فيها حتى اشتعلت ثورة 1936، فأخذ يسهم فيها بالكلمة والبندقية واستقال من عمله وانخرط في كتائب الجهاد تحت قيادة القائد عبد الرحيم الحاج محمد، واستهان بالمخاطر ولم يظفر بالشهادة في تلك الثورة.
ونظراً لدوره الجهادي، فهو صاحب القصائد التي ألهبت حماس الجماهير وأصبحت أناشيد طلاب المدارس، طاردته قوات الاحتلال البريطاني مطاردة عنيفة. وأشهر الأناشيد التي رددها الشعب كانت قصيدته «الشهيد» الشهيرة التي لم يسبقها في شهرتها العربية من قصائد شعراء فلسطين إلا قصيدة «موطني» لطوقان، وقصيدة «الشعب الباسل»:
شعب تمرّس بالصعاب
ولم تنل منه الصعاب
في العراق
كغيره من مجاهدي فلسطين، لم يرقْ له البقاء في فلسطين بعدما توقفت الثورة عام 1939، وفي الوقت نفسه لم يتوقف الاحتلال البريطاني عن مطاردته، فتوجه إلى العراق حيث عمل بالتدريس، ولكنه لم ينس فلسطين والجهاد، فأخباره التي كان يرسلها مع قصائده إلى فلسطين تفيد أنه التحق بالكلية العسكرية وتخرج منها برتبة ملازم، وأنه أسهم في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد البريطانيين، وكان له جولات في مجال الأدب مع شعراء العراق الأعلام كالرصافي والجواهري، أما القصائد التي أرسلها فكانت تزخر بحنينه واشتياقه للوطن، وأشهرها:
تلك أوطاني وهذا رسمها
في سويداء فؤادي محتفر
يتراءى لي على بهجتها
حيثما قلبت في الكون النظر
عودته واستشهاده
عاد الشاعر إلى فلسطين عام 1941، وأطلق أجمل قصائده حتى استشهاده عام 1948. فحين صدر قرار التقسيم عام 29 تشرين الثاني1947 وقامت الحرب سافر بعد أقل من شهرين إلى بيروت، ومنها إلى دمشق حيث تدرب في معسكر قطنة، والتحق بجيش الإنقاذ في فوج حطين وشارك في معركة «بيار عدس»، كما اشترك في معركة قامت في رأس العين على مقربة من مستعمرة «ملبس» اليهودية.. ثم شارك في القتال الذي قام حول الرملة وفي قطاع الناصرة، وكان قد رُقّي إلى رتبة ملازم أول. وكان مساعداً لآمر الفوج المسؤول عن الناصرة. وانطلق إلى المعارك التي دارت حول قرية الشجرة مع المستعمرات اليهودية المحيطة التي اشتدت حتى ناهز عدد الإصابات الألف.
وفي ساحة المعركة التي نشبت في 13 تموز 1948 أصيب الشاعر برصاصة استشهد على إثرها، وقال أبياته الواردة في بدايات هذا المقال حين حضر رفاقه إليه وظل يتمتم حتى فاضت روحه رحمه الله، ودفن الشهيد في الناصرة التي لم تكن قد سقطت بعد، تاركاً زوجته وأولاده الطيب وطلال ورقية.
شعره الإسلامي
أبدع عبد الرحيم محمود في القصائد الوطنية والاجتماعية والإنسانية والوجدانية الذاتية، حي عبر عن وجدان نفسه وأحاسيسه الذاتية، ووجدان وأحاسيس أبناء أمته، حيث كانت القصيدة الوطنية هي الأكثر بين قصائده نسبة للموضوعات الأخرى، وربما كان مردّ هذا يعود إلى النشر (حيث لم تلتفت الصحف كثيراً في تلك الأيام إلى القصائد العاطفية)، إلا أنه لا يستطيع منصف أن ينكر أن الشاعر تفوق في مستوى قصائده الوطنية حتى على نفسه.. ولا أعني بالشعر الإسلامي المتخصص الديني فقط، بل كل ما تأثر بالإسلام، وقد كانت المؤثرات الإسلامية حول الشاعر كثيرة منذ والده الشيخ حتى آخر أيامه. غير أن أكثر المؤثرات الإسلامية في حياة الشاعر كانت خروج الشيخ عز الدين القسام وإعلان ثورته ثم استشهاده. وقد دعته حادثة استشهاد القسام إلى الاعتكاف على دراسة القران الكريم. ويظهر تأثره بألفاظ القرآن واضحاً في شعره، كما في قصيدته الشهيرة «البطل الشهيد»:
كل قلب لك فيه مصحف
فيه من ذكرك قرآن خلود
سور قد فصلت آياتها
لم تزل تتلى على الدهر الأبيد
وكانت غيرته على الإسلام والوطن كبيرة، وفي قصيدته «نجم السعود» يُشهَد له أكثر من شهادة، حيث أنه لم يلهُ باستقبال الملك سعود (وكان لا يزال أميراً) عن قضيته الكبيرة، أما الشهادة الثانية فكانت كالتنبؤ، غير أنها كانت استقراءً لما يحدث وأطلق في قصيدته بيته الشهير عام 1935:
يا ذا الأمير أمام عينك شاعر
ضُمّت على الشكوى المريرة أضلعُه
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودِّعُهْ
الهمّ الاجتماعي
لا بد من الإشارة إلى الهمّ الاجتماعي الذي حمله في حياته وشعره، وقد تميز في هذا المجال بأفكار وقصائد لم يأت بها قبله أحد، ومنها قصيدته للعمال «المصادر والموارد» ومنها أشهرها «رثاء حمال»، حين رأى حمالاً ميتاً على رصيف في حيفا والناس لا تكترث له فهاله المنظر ونظم القصيدة:
قد عشت في الناس غريباً وها
قد متَّ بين الناس موت الغريب
والناس مذ كانوا ذوو قسوة
وليس للبائس فيهم نصيب
لو كنت في حبلك شنّاقهم
لَوَلْولوا حزناً وشقوا الجيوب
أو كنت من سَلِّك رزّاقهم
لقام عند السلّ ألفا خطيب
ونزّهوا حبلك عن عيبه
وبللوا السل بذوب القلوب
العوامل المؤثرة بشعره
في مقدمة ديوان الشاعر، أفرد الدكتور كامل السوافيري بحثاً كاملاً حول العوامل المؤثرة في شعر عبد الرحيم محمود مستعيناً بالشواهد الشعرية والتاريخية، سوف نستعين به في سردنا لهذه العوامل..
أولاً: الموهبة الفطرية والطفولة، فقد منحه الله موهبة الشعر، والقدرة على نظمه منذ صغره، وقد غذى هذه القدرة رعاية والده له واهتمامه بموهبته.
ثانياً: الدربة والممارسة والثقافة، فقد أتيح للشاعر أن يتعلم في مدرسة النجاح الوطنية حيث تخرجت نخبة أبناء وقيادات وأدباء فلسطين، منهم الشاعر إبراهيم طوقان والشاعر محمد العدناني، والعلماء أنيس الخوري وقدري طوقان والدكتور عمر فروخ..
ثالثاً: تتلمذ الشاعر على يد شاعر فلسطين الأول إبراهيم طوقان، وعلى إعجابه بشعره وإتقانه لعبة الشعر.. ولم يقدّر لهذين الشاعرين أن يعيشا طويلاً، فتوفي طوقان عن عمر 36 سنة، واستشهد محمود في عمر 35 سنة.
رابعاً: ثقافة الشاعر الخاصة والروافد التي أمدّت ثقافته العامة، ويبدو لنا من آثاره أنه قرأ كثيراً من مؤلفات أعلام الأدب ودواوين فحول الشعراء في مختلف العصور..
خامساً: شهود الشاعر المؤتمرات الوطنية التي كانت تعقد في مدن فلسطين وقراها، وتناقش فيها قضايا البلاد.. فكان يسهم في هذه المؤتمرات بشعره الثائر ويلهب القلوب والوجدان..
سادساً: جماعة القسام، وهي أولى الجماعات التي رفعت راية الجهاد المسلح وقدمت أرواحها دفاعاً عن بلادها. وقد وضع الشعر العربي على رأس الشيخ القسام وأصحابه أكاليل المجد، وتوّجهم بتيجان الخلود، ولم يقصّر الشعراء في تمجيد هذا الشيخ وجهاده..
سابعاً: ثورة فلسطين الكبرى التي بدأت بإضراب عام في 20 نيسان 1936، وقد خاض عبد الرحيم في الثورة العديد من المعارك، وحارب جنود بريطانيا حرباً عنيفة، وأوحت إليه وإلى شعراء فلسطين أروع القصائد. إذا ألهمت إبراهيم طوقان رائعتيه «الشهيد» و«الفدائي»، وألهمت أبو سلمى قصيدتيه «جبل النار» و«فلسطين»، وألهمت عبد الرحيم محمود رائعتيه «الشهيد» و«الشعب الباسل».
ثامناً: حياته في نابلس، مدينة العلم والأدب، والسحر والشعر والجمال والثورة والجهاد والكفاح والنضال. وسحر الطبيعة وطبيعة الحياة الاجتماعية والأدبية فيها..
تاسعاً: تنقّل الشاعر بين مختلف المدن والقرى والسهول والجبال واتصاله بالشخصيات ومعايشته الثوار في الجبال والمطاردات والعمليات.
عاشراً: غربته في العراق زهاء ثلاث سنوات وإحساسه بمعاناة الغريب والشوق للبلاد، والفائدة التي جناها باتصاله مع كبار شعراء العراق كالرصافي والجواهري..
قصيدة «الشهيد»
من يتابع الأناشيد التي رافقت الانتفاضة الفلسطينية، لا بد أن يكون قد سمع بهذه القصيدة التي أنشدتها فرقة «الرابطة» الفلسطينية في الكويت قبيل الانتفاضة الأولى عام 1987، ثم دمجها منشد فلسطيني من الأردن بقصيدة للإعلامي الراحل ماهر عبد الله، لتخرج أنشودة من روائع الإنشاد الوطني الفلسطيني.. وكما ذكرنا، سارت هذه القصيدة في الآفاق، ولم تسبقها في شهرتها بين القصائد الوطنية سوى قصيدة إبراهيم طوقان الأشهر «موطني».
ونختتم المقال عن عبد الرحيم محمود بمقطع من هذه القصيدة الشهيرة:
سأحمل روحي على راحتي
وأمضي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتان
وُرود المنايا ونيل المنى
لعمرك إني أرى مصرعي
ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مقتلي دون حقي السليب
ودون بلادي هو المبتغى
بقلبي سأرمي وجوه العدى
فقلبي حديد وناري لظى
وأحمي حياضي بحد الحسام
فيعلم قومي بأني الفتى
وبسبب إدراكه لتأثير الشعراء والخطباء في الثورة، اضطهدهم الاحتلال البريطاني وزجّ بالكثير منهم في السجون والمعتقلات. وعندما اشتعلت الثورة الكبرى في فلسطين عام 1936 أصدرت الحكومة البريطانية تشريعاً ظالماً يجعل التحريض على الثورة جريمة عقابها السجن، مما اضطر عدداً من الكتّاب والشعراء للهجرة من فلسطين طلباً لحرية الكلمة، وهرباً من ظلم الاحتلال الذي جعلهم من أهدافه المفضلة.
الشعراء الشهداء
شهدت فلسطين في فترة الجهاد والثورة قبيل النكبة عدداً من الشعراء المميزين كإبراهيم طوقان وأبو سلمى وغيرهم.. كما شهد قافلة عظيمة من الشهداء إلا أنها لم تشهد شخصاً جمع الاثنين معاً غير الشاعر عبد الرحيم محمود. كما أن التاريخ العربي - فيما أعلم - لم يشهد شاعراً شيّع نفسه، فقال بعد إصابته قبيل استشهاده في معركة الشجرة عام 1948 حين وجده رفاقه مصاباً:
احملوني احملوني
واحذروا أن تتركوني
وخذوني لا تخافوا
وإذا مت ادفنوني
حياته
ولد الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود في قرية عنبتا، عام 1913 وكان والده الشيخ عبد الحليم محمود يقرض للشعر ويتذوقه، فأحاطه بالرعاية عند ظهور بوادر نبوغه الشعري، وتلقى تعليمه الابتدائي في قريته والتكميلي في طولكرم. أما المرحلة الثانوية، فقد انتقل ليتمّها في نابلس، في مدرسة النجاح الوطنية (التي أصبحت فيما بعد جامعة النجاح) حيث تتلمذ على يد الشاعر إبراهيم طوقان، وأنهى دراسته الثانوية عام 1933، ولعل الشاعر طوقان كان يقصده حين كتب في مذكراته: أن بعض تلاميذه النجب بدأوا ينظمون الشعر على يديه.
ولما تخرج من المدرسة اختارته إدارتها ليدرّس فيها الأدب العربي، حيث ظل يدرّس فيها حتى اشتعلت ثورة 1936، فأخذ يسهم فيها بالكلمة والبندقية واستقال من عمله وانخرط في كتائب الجهاد تحت قيادة القائد عبد الرحيم الحاج محمد، واستهان بالمخاطر ولم يظفر بالشهادة في تلك الثورة.
ونظراً لدوره الجهادي، فهو صاحب القصائد التي ألهبت حماس الجماهير وأصبحت أناشيد طلاب المدارس، طاردته قوات الاحتلال البريطاني مطاردة عنيفة. وأشهر الأناشيد التي رددها الشعب كانت قصيدته «الشهيد» الشهيرة التي لم يسبقها في شهرتها العربية من قصائد شعراء فلسطين إلا قصيدة «موطني» لطوقان، وقصيدة «الشعب الباسل»:
شعب تمرّس بالصعاب
ولم تنل منه الصعاب
في العراق
كغيره من مجاهدي فلسطين، لم يرقْ له البقاء في فلسطين بعدما توقفت الثورة عام 1939، وفي الوقت نفسه لم يتوقف الاحتلال البريطاني عن مطاردته، فتوجه إلى العراق حيث عمل بالتدريس، ولكنه لم ينس فلسطين والجهاد، فأخباره التي كان يرسلها مع قصائده إلى فلسطين تفيد أنه التحق بالكلية العسكرية وتخرج منها برتبة ملازم، وأنه أسهم في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد البريطانيين، وكان له جولات في مجال الأدب مع شعراء العراق الأعلام كالرصافي والجواهري، أما القصائد التي أرسلها فكانت تزخر بحنينه واشتياقه للوطن، وأشهرها:
تلك أوطاني وهذا رسمها
في سويداء فؤادي محتفر
يتراءى لي على بهجتها
حيثما قلبت في الكون النظر
عودته واستشهاده
عاد الشاعر إلى فلسطين عام 1941، وأطلق أجمل قصائده حتى استشهاده عام 1948. فحين صدر قرار التقسيم عام 29 تشرين الثاني1947 وقامت الحرب سافر بعد أقل من شهرين إلى بيروت، ومنها إلى دمشق حيث تدرب في معسكر قطنة، والتحق بجيش الإنقاذ في فوج حطين وشارك في معركة «بيار عدس»، كما اشترك في معركة قامت في رأس العين على مقربة من مستعمرة «ملبس» اليهودية.. ثم شارك في القتال الذي قام حول الرملة وفي قطاع الناصرة، وكان قد رُقّي إلى رتبة ملازم أول. وكان مساعداً لآمر الفوج المسؤول عن الناصرة. وانطلق إلى المعارك التي دارت حول قرية الشجرة مع المستعمرات اليهودية المحيطة التي اشتدت حتى ناهز عدد الإصابات الألف.
وفي ساحة المعركة التي نشبت في 13 تموز 1948 أصيب الشاعر برصاصة استشهد على إثرها، وقال أبياته الواردة في بدايات هذا المقال حين حضر رفاقه إليه وظل يتمتم حتى فاضت روحه رحمه الله، ودفن الشهيد في الناصرة التي لم تكن قد سقطت بعد، تاركاً زوجته وأولاده الطيب وطلال ورقية.
شعره الإسلامي
أبدع عبد الرحيم محمود في القصائد الوطنية والاجتماعية والإنسانية والوجدانية الذاتية، حي عبر عن وجدان نفسه وأحاسيسه الذاتية، ووجدان وأحاسيس أبناء أمته، حيث كانت القصيدة الوطنية هي الأكثر بين قصائده نسبة للموضوعات الأخرى، وربما كان مردّ هذا يعود إلى النشر (حيث لم تلتفت الصحف كثيراً في تلك الأيام إلى القصائد العاطفية)، إلا أنه لا يستطيع منصف أن ينكر أن الشاعر تفوق في مستوى قصائده الوطنية حتى على نفسه.. ولا أعني بالشعر الإسلامي المتخصص الديني فقط، بل كل ما تأثر بالإسلام، وقد كانت المؤثرات الإسلامية حول الشاعر كثيرة منذ والده الشيخ حتى آخر أيامه. غير أن أكثر المؤثرات الإسلامية في حياة الشاعر كانت خروج الشيخ عز الدين القسام وإعلان ثورته ثم استشهاده. وقد دعته حادثة استشهاد القسام إلى الاعتكاف على دراسة القران الكريم. ويظهر تأثره بألفاظ القرآن واضحاً في شعره، كما في قصيدته الشهيرة «البطل الشهيد»:
كل قلب لك فيه مصحف
فيه من ذكرك قرآن خلود
سور قد فصلت آياتها
لم تزل تتلى على الدهر الأبيد
وكانت غيرته على الإسلام والوطن كبيرة، وفي قصيدته «نجم السعود» يُشهَد له أكثر من شهادة، حيث أنه لم يلهُ باستقبال الملك سعود (وكان لا يزال أميراً) عن قضيته الكبيرة، أما الشهادة الثانية فكانت كالتنبؤ، غير أنها كانت استقراءً لما يحدث وأطلق في قصيدته بيته الشهير عام 1935:
يا ذا الأمير أمام عينك شاعر
ضُمّت على الشكوى المريرة أضلعُه
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودِّعُهْ
الهمّ الاجتماعي
لا بد من الإشارة إلى الهمّ الاجتماعي الذي حمله في حياته وشعره، وقد تميز في هذا المجال بأفكار وقصائد لم يأت بها قبله أحد، ومنها قصيدته للعمال «المصادر والموارد» ومنها أشهرها «رثاء حمال»، حين رأى حمالاً ميتاً على رصيف في حيفا والناس لا تكترث له فهاله المنظر ونظم القصيدة:
قد عشت في الناس غريباً وها
قد متَّ بين الناس موت الغريب
والناس مذ كانوا ذوو قسوة
وليس للبائس فيهم نصيب
لو كنت في حبلك شنّاقهم
لَوَلْولوا حزناً وشقوا الجيوب
أو كنت من سَلِّك رزّاقهم
لقام عند السلّ ألفا خطيب
ونزّهوا حبلك عن عيبه
وبللوا السل بذوب القلوب
العوامل المؤثرة بشعره
في مقدمة ديوان الشاعر، أفرد الدكتور كامل السوافيري بحثاً كاملاً حول العوامل المؤثرة في شعر عبد الرحيم محمود مستعيناً بالشواهد الشعرية والتاريخية، سوف نستعين به في سردنا لهذه العوامل..
أولاً: الموهبة الفطرية والطفولة، فقد منحه الله موهبة الشعر، والقدرة على نظمه منذ صغره، وقد غذى هذه القدرة رعاية والده له واهتمامه بموهبته.
ثانياً: الدربة والممارسة والثقافة، فقد أتيح للشاعر أن يتعلم في مدرسة النجاح الوطنية حيث تخرجت نخبة أبناء وقيادات وأدباء فلسطين، منهم الشاعر إبراهيم طوقان والشاعر محمد العدناني، والعلماء أنيس الخوري وقدري طوقان والدكتور عمر فروخ..
ثالثاً: تتلمذ الشاعر على يد شاعر فلسطين الأول إبراهيم طوقان، وعلى إعجابه بشعره وإتقانه لعبة الشعر.. ولم يقدّر لهذين الشاعرين أن يعيشا طويلاً، فتوفي طوقان عن عمر 36 سنة، واستشهد محمود في عمر 35 سنة.
رابعاً: ثقافة الشاعر الخاصة والروافد التي أمدّت ثقافته العامة، ويبدو لنا من آثاره أنه قرأ كثيراً من مؤلفات أعلام الأدب ودواوين فحول الشعراء في مختلف العصور..
خامساً: شهود الشاعر المؤتمرات الوطنية التي كانت تعقد في مدن فلسطين وقراها، وتناقش فيها قضايا البلاد.. فكان يسهم في هذه المؤتمرات بشعره الثائر ويلهب القلوب والوجدان..
سادساً: جماعة القسام، وهي أولى الجماعات التي رفعت راية الجهاد المسلح وقدمت أرواحها دفاعاً عن بلادها. وقد وضع الشعر العربي على رأس الشيخ القسام وأصحابه أكاليل المجد، وتوّجهم بتيجان الخلود، ولم يقصّر الشعراء في تمجيد هذا الشيخ وجهاده..
سابعاً: ثورة فلسطين الكبرى التي بدأت بإضراب عام في 20 نيسان 1936، وقد خاض عبد الرحيم في الثورة العديد من المعارك، وحارب جنود بريطانيا حرباً عنيفة، وأوحت إليه وإلى شعراء فلسطين أروع القصائد. إذا ألهمت إبراهيم طوقان رائعتيه «الشهيد» و«الفدائي»، وألهمت أبو سلمى قصيدتيه «جبل النار» و«فلسطين»، وألهمت عبد الرحيم محمود رائعتيه «الشهيد» و«الشعب الباسل».
ثامناً: حياته في نابلس، مدينة العلم والأدب، والسحر والشعر والجمال والثورة والجهاد والكفاح والنضال. وسحر الطبيعة وطبيعة الحياة الاجتماعية والأدبية فيها..
تاسعاً: تنقّل الشاعر بين مختلف المدن والقرى والسهول والجبال واتصاله بالشخصيات ومعايشته الثوار في الجبال والمطاردات والعمليات.
عاشراً: غربته في العراق زهاء ثلاث سنوات وإحساسه بمعاناة الغريب والشوق للبلاد، والفائدة التي جناها باتصاله مع كبار شعراء العراق كالرصافي والجواهري..
قصيدة «الشهيد»
من يتابع الأناشيد التي رافقت الانتفاضة الفلسطينية، لا بد أن يكون قد سمع بهذه القصيدة التي أنشدتها فرقة «الرابطة» الفلسطينية في الكويت قبيل الانتفاضة الأولى عام 1987، ثم دمجها منشد فلسطيني من الأردن بقصيدة للإعلامي الراحل ماهر عبد الله، لتخرج أنشودة من روائع الإنشاد الوطني الفلسطيني.. وكما ذكرنا، سارت هذه القصيدة في الآفاق، ولم تسبقها في شهرتها بين القصائد الوطنية سوى قصيدة إبراهيم طوقان الأشهر «موطني».
ونختتم المقال عن عبد الرحيم محمود بمقطع من هذه القصيدة الشهيرة:
سأحمل روحي على راحتي
وأمضي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتان
وُرود المنايا ونيل المنى
لعمرك إني أرى مصرعي
ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مقتلي دون حقي السليب
ودون بلادي هو المبتغى
بقلبي سأرمي وجوه العدى
فقلبي حديد وناري لظى
وأحمي حياضي بحد الحسام
فيعلم قومي بأني الفتى
الخميس يوليو 02, 2009 12:26 am من طرف زعنون
» حبيت اعايدك
الأربعاء يوليو 01, 2009 10:41 am من طرف زعنون
» الحركة السياسية في إريتريا
الأربعاء يوليو 01, 2009 10:39 am من طرف زعنون
» غربة المسلمين في ملاوي
الأربعاء يوليو 01, 2009 10:31 am من طرف زعنون
» استعمار في الصومال
الأربعاء يوليو 01, 2009 4:02 am من طرف زعنون